مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - أحوال عائلة مصرية (جزء 7)

7

محمد عبد الهادي

ازداد التصاقي بعشرات المصريين البسطاء الذين تعرفت عليهم هنا، كان أغلبهم يعاني من مظالم كثيرة لكنه لا يستطيع لأغلبها دفعا، تحكمهم لقمة العيش والخوف من العودة مكسوري الخاطر .. مفلسين كما جاءوا، كان أغلبهم قد استدان ليتمكن من القدوم إلى هنا .. فهل يعود مدينا ليحمل هما فوق هم؟ في إحدى جلساتي مع أحدهم .. حرفي شاب في مثل عمري، شكى لي ما يتعرض له من ابتزاز دائم من الكفيل الذي استقدمه، تعاقد معه على العمل كهربائيا في مؤسسته الخاصة وعندما جاء لم يجدها، طلب منه الكفيل أن يبحث عن رزقه كيفما يشاء ودون تدخل منه شرط أن يدفع له مبلغا من المال كل شهر .. كان المبلغ كبيرا، أخبرني صديقي أنه كان يجد العمل أحيانا وأحيانا لا يجده، ضيق على نفسه في المعيشة حتى يتمكن من الاستمرار في دفع الإتاوة الشهرية وإرسال مبلغ شهري ضئيل لأسرته في مصر، كان يمني نفسه دائما بالحصول على فرصة عمل كبيرة لحساب أحد الأمراء أو الأثرياء توفر له مبلغا كبيرا يمكنه من تعويض خسارته ويفتح له أبواب العمل لدى آخرين على نفس الشاكلة، لم تأته هذه الفرصة أبدا، ظل يعمل في عمليات صغيرة يدبرها له بعض المصريين والسعوديين الذين قام لهم بأعمال سابقة، اضطر لممارسة أعمال أخرى بجوار حرفته الأصلية .. بائعا .. طباخا .. حارسا .. عامل نظافة .. وغيرها من الأعمال، قلت له متعجبا:

ـ لماذا تركت بلدك ومعك حرفة يمكن أن تجعلك تعيش ملكا؟!

أجاب في أسى:

ـ لو تركوني أعمل ما تركتها أبدا.

ـ أنت كهربائي حر ولن يمنعك أحد من العمل.

ـ هذا صحيح ولكن عندي زوجة وأولاد .. أب وأم وأختين .. أنا المسئول عنهم، نعيش جميعا في منزل شبه متهدم، أحد أسباب قدومي إلى هنا هو محاولة ترميمه أو العثور على مسكن آخر.

ـ وكيف تتركهم تحت هذا التهديد الدائم بسقوط المنزل طالما أنت المسئول عنهم؟!

ـ ومن أين لي أن أرممه أو أعثر على بديل له .. ألا تعرف تكلفة ذلك في مصر الآن؟ فضلا عن المضايقات الدائمة التي نتعرض لها من "البلدية" بسبب حالة المنزل، أدفع أحيانا رشاوى خشية أن يهدموه في أي لحظة ونصبح جميعا في الشارع.

ـ على الأقل سيوفرون لكم بديلا.

ـ أنت لا تعرف شيئا يا أستاذ محمد، هناك المئات في مثل حالتنا يدفعون بهم إلى خيام أو مساكن من صفيح، بعضهم له سنوات على هذه الحالة.

ظل يحكي لي عما يعانيه ساكني الصفيح هؤلاء، كيف تقع تلك المناطق رغما عنهم تحت سيطرة مجموعات من البلطجية فتتحول إلى أوكار للجريمة والرذيلة، كيف يغيب تماما دور الأمن عنها، كيف يعيشون دون مرافق أساسية من ماء وكهرباء وصرف صحي، كيف لا يجدون مدارس لتعليم أبنائهم أو مستشفيات لعلاج مرضاهم .. كيف وكيف وكيف، وأخيرا كيف يحاولون دون جدوى الاتصال بكافة المسئولين وأعضاء المجالس المختلفة لحل مشاكلهم فلا يحصلون إلا على وعود لا تنفذ، كان ما سرده علي كافيا لدفعي إلى الصمت والتوقف عن مجادلته، أخذت ألوم نفسي لكوني أعيش حياة مرفهة بالقياس إلى ما سمعته ورغم ذلك تركت بلدي وأتيت إلى هنا.


وفاء عبد الهادي

أدى وليد امتحانات السنة النهائية وبعد ظهور النتيجة مباشرة ونجاحه ونجاحي أنا أيضا كرر رغبته في التقدم لخطبتي، لم أستطع التعلل بأي شيء لتأجيل الأمر، كنت في واقع الأمر أتحرق شوقا لإتمام هذه الخطوة لكنني كنت أخشى جرح مشاعر سمر في ظل حالة الحزن التي تعيشها، حاولت سابقا أن أفاتحها وأمهد لها الأمر لكنني كنت أتراجع في اللحظات الأخيرة، كان أمل قد أكمل ثمانية شهور وامتلأ حركة وحيوية، انتهزت إحدى المرات القليلة التي كانت في حالة مزاجية رائقة بفضل أمل وحركاته واستجمعت شجاعتي وأخبرتها عن علاقتي بوليد، جاء الأمر سريعا ودون مقدمات ودون الكثير من التفاصيل، أخبرتها ووجهي إلى الأرض عن رغبته في التقدم لخطبتي، لم أجرؤ على النظر في عينيها ولم أتمكن بالتالي من التعرف على رد فعلها، لما وجدتها صامتة لا تجيب رفعت عيني إليها فلمحت دمعتان متحجرتان في عينيها، أصابني شلل مفاجئ ولم أدر ماذا أفعل، كسرت هي الصمت أخيرا واحتضنتني ثم بكت، قالت وهي تبكي:

ـ مبروك يا وفاء .. مبروك يا حبيبتي.

أجبتها في صوت خفيض:

ـ لماذا تبكين إذن؟

قالت وقد تمالكت نفسها بعض الشيء:

ـ حز في نفسي أن يتقدم إليك في غياب محمد.

كأنما قدمت هي إلي العذر الذي يمكن أن أقدمه لوليد فقلت لها وأنا بالفعل مقتنعة بما أقوله:

ـ معك حق .. وأنا أيضا لن أرضى بذلك إلا في وجوده، سأبلغ وليد أن ينتظر حتى يعود محمد في أقرب أجازة.

ردت بسرعة:

ـ كلا لا تؤجلي فرحتك .. نحن جميعا في حاجة لهذه الفرحة.

ـ لن يكون ذلك إلا في حضور محمد وأظنه يعود قريبا، لقد مضى على سفره مدة ليست بالقليلة ونحن في موسم أجازات ولعله يعود إن شاء الله، بالتأكيد هو يشتاق إليك ويرغب في رؤية ابنه.

لم تجادلني وقالت في صوت ملئ بالشجن:

ـ يا رب .. يا رب يا وفاء.


وفاء عبد الهادي

في مفاجأة لم أستطع استيعابها وجدت أبي يطلب محادثتي على انفراد .. لم تكن أمي حتى موجودة، أخبرني دون أن يبدو على وجهه أي تعبير أن هناك من اتصل به طالبا الحضور بخصوص خطبتي، سألني مباشرة دون لف أو دوران وبصوت محايد:

ـ اسمه وليد، هل تعرفينه؟

صمتت للحظات وقد استولت علي المفاجأة، أعاد السؤال بصوت أكثر رفقا ثم قال:

ـ يا ابنتي قولي الحقيقة ولا تخشي شيئا.

نزلت من عيني دمعتان لا أكثر ثم انفتح فمي فجأة وحكيت له كل شيء بسرعة فائقة، كنت آكل الكلمات والحروف من فرط سرعتي، احتضنني وطلب مني أن أهدأ وأتحدث برفق، أعدت عليه الحكاية بصوت أكثر تماسكا وهدوء، أخبرته أنني أبلغت سمر بالأمر وكنا ننتظر عودة محمد من الخارج، قال في حنان:

ـ طالما تقدم لي بالفعل فلا يجب الانتظار، سنقوم بالسؤال عنه وقد حددت موعدا بالفعل ليزورنا هو وأسرته بعد أسبوعين، إن أراد الله أن يتم هذا الأمر فسنؤجل الارتباط الرسمي لحين عودة أخيك.

فاجأني كلام أبي وتقبله الأمر بكل هذه البساطة فارتميت عليه أقبله وأنا ابكي فقال لي:

ـ نحن بحاجة للفرحة لا الحزن يا ابنتي.


أم محمد

فاجأني "الأسطى" عبد الهادي في غمرة انشغالي بأمل بأمر العريس الذي يرغب في التقدم لخطبة وفاء، رغم تأهبي منذ ولادتها لمقدم هذا اليوم إلا أنني استمعت إليه وكأنه لم يخطر على بالي من قبل، ما أسرع مرور الأيام والسنين، ها هي وفاء طفلتي الصغيرة أصبحت بالفعل عروسا يرغب فيها الرجال، عندما سألته عن العريس المنتظر أخبرني أنه وفقا لكلامه ينتمي لعائلة مرموقة وأنه يستعجل تحديد موعد قريب لزيارتنا، قلت له:

ـ وهل سألت عنه يا أبو محمد.

أجابني:

ـ سأفعل إن شاء الله.

عندما انفردت بوفاء بعد تكلم أبيها أولا معها كانت في حالة من الخجل لم أرها من قبل، كان وجهها شديد الاحمرار لدرجة أخافتني عليها، قلت لها وأنا أبتسم:

ـ حمرة الخجل أم الفرح .. أم ماذا يا ابنتي؟

قالت:

ـ أمي ..

ثم عجزت عن مواصلة الكلام وألقت بنفسها في صدري وبكت، ضغطتها إليه بشدة وتملكتني رغبة مستحيلة أن تعود الأيام والسنوات إلى الوراء كي أحتفظ بابنتي الحبيبة إلى جواري، تظل الأم تحلم بزواج ابنتها حتى وهي طفلة صغيرة وعندما يحين هذا اليوم بالفعل تخاف منه .. لكنها سنة الحياة ولا مفر منها.


سمر

عندما أخبرت محمد بأمر وفاء ووليد شعرت أنه سيقفز عبر الهاتف لأجده أمامي، كان وقع الخبر عليه جميلا ورفع كثيرا من معنوياته، بدأ يحكي لي عن ذكرياته مع أخته التي تصغره وكيف كان يعاملها منذ صغره معاملة الأب لا الأخ، لما أفاض كثيرا في حديثه نبهته إلى ذلك وطلبت منه الاكتفاء إشفاقا على دخله الذي يشقى لكي يبعث بأغلبه إلينا، قال لي وقد تغيرت نبرة صوته:

ـ ماذا تعرفين يا حبيبتي عن شقاء الغربة؟

لم أفهم ماذا يقصد بالتحديد لكنني أجبته:

ـ بالتأكيد لا أعرف عنها شيئا لكنني أعاني غربة من نوع خاص في غيابك عني وعن ابنك.

ـ لا أقصد ذلك.

ـ إذن ماذا تقصد؟

ـ أنا مرفه كثيرا بالنسبة إلى غيري، لا تعلمين كيف يعاني حقا الكثير من المصريين العاملين هنا.

ـ بالتأكيد الغربة لها ثمن.

ـ ما أقساه من ثمن يا سمر .. ما أقساه من ثمن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى