أحوال عائلة مصرية (جزء 6)

محمد عبد الهادي

مضت الأمور في الأيام القليلة الأولى لوصولي للعمل بالسعودية على أحسن وجه، لقيت استقبالا طيبا بمعمل التحاليل الذي تعاقدت للعمل به من زملائي في العمل، كانوا من جنسيات مختلفة .. مصريون مثلي وسوريون وباكستانيون وغيرهم، كان العمل مجهدا لكن الأجر عليه كان مجزيا بدرجة معقولة، مكنني ذلك من تحويل مبلغ شهري لا بأس به لأسرتي في مصر، كنت أتابع بلهفة أخبار سمر وشهور حملها المتبقية يوما بيوم، قالت لي ذات مرة:

ـ هل ستنفق ما تكسبه من تعبك وصحتك على الاتصالات التليفونية؟

أجبتها:

ـ ألا تعلمين مدى عذابي لابتعادي عنك في هذه الفترة تحديدا؟

ـ أعلم بالتأكيد .. لكن ما باليد حيلة.

لم يكن صوتها يعجبني .. رغم تأكيدها وتأكيد أمي وأبي لي أنها بخير، عزوت ذلك لتعب الحمل واقتراب موعد الولادة، ولإحساسي بالأمل يملأني بعد غيابه عن حياتي لفترة كبيرة، ورغم غربتي وابتعادي عن أهلي وأحبابي، اتخذت قرارا بيني وبين نفسي أن أسمي طفلي القادم "أمل" سواء كان ولدا أو بنتا.


سمر

وأخيرا جاء ابن محمد .. صورة طبق الأصل من أبيه وجده، وللمرة الأولى منذ سفر محمد تعرف الابتسامة طريقها إلى وجهي والفرحـة طريقها إلى قلبي، اختار له محمد اسما غريبا .. "أمل"، قلت له عندما طلب مني ذلك تليفونيا:

ـ ألا ترى أنه يناسب البنات أكثر؟!

قال وصوته يأتيني من بعيد لكن الفرح يملأه:

ـ بل ويصلح أيضا للأولاد.

صمت قليلا ثم قال:

ـ لعله يكون بالفعل أملا حقيقيا .. لنفسه .. ولنا .. ولبلده، ثم ألا تذكرين يا دارسة الآداب أن هناك شاعرا مرموقا يحمل هذا الاسم.

لم نتجادل كثيرا واقتنعت باختياره، وافقت العائلة سريعا على الاسم، قال عمي:

ـ على بركة الله.

أما زوجة عمي فقد طارت فرحا .. كأن لها بالفعل جناحين، رغم كل متاعبها السابقة وقلقها على عمي وابنه إلا أنها وجدت سلواها في أمل.


أم محمد

جاء أمل ليعطينا الأمل، نسيت أحزاني بسبب سفر محمد واغترابه عنا، وتراجع قلقي على "الأسطى" عبد الهادي وحياته الجديدة، انشغاله بمتابعة قضية بيع الشركات واهتمامه بمشاكل زملائه من العمال، أصبح مشغولا بصورة دائمة وانخرط بشكل ما في العمل السياسي الذي لم يخضه من قبل، صحيح أنه لم ينضم لأي حزب من الأحزاب القائمة بل إنه صرح لي ذات مرة بامتعاضه الشديد منها واعتبرها عنصرا من عناصر المشكلة في البلد، لكنه من خلال مجموعة العمل التي شكلها مع بعض رفاقه اقترب كثيرا من هذا المجال، بما يحمله ذلك من خطر تعرضه لمضايقات الحكومة والأمن، فضلا عن تعرضـه للإجهاد الشديد وبعض الأزمات الصحية التي سببت لنا قلقا كبيرا، تراجع كل ذلك وشغلني أمل عمن سواه، خرجت المسكينة أمه من حالة الغيبوبة الصامتة التي أصابتها منذ سفر زوجها، ومما ضاعف من سعادتي عودة وفاء إلينا، هي الأخرى تخلصت من الحالة العدوانية التي كانت عليها وعادت ابنتي الحبيبة الرقيقة إلى حضني، انشغلنا نحن الثلاثة أنا وسمر ووفاء كثيرا بالرضيع الصغير قليل الحجم كثير البكاء، كأنما يشعر بغياب أبيه عنه حتى قبل أن يولد، أدعو الله أحيانا في سري على الذين يدفعون محمدا وأمثاله من الشباب لهجر بلدهم وأهلهم وأولادهم للخروج بحثا عن لقمة العيش وما يعانونه جراء ذلك، ثم أعود وأدعو الله أن يصلحهم وأن يرأفوا بالناس في هذا البلد، أتذكر ما قاله لي "أبو محمد" بعد سفر ابننا مباشرة:

ـ حسبنا الله ونعم الوكيل .. بلدنا فيها خير كثير، والله لو حكموها بالعدل ما اضطر محمد ولا غيره للسفر إلى الخارج.


"الأسطى" عبد الهادي

لم يطل الوقت بنا كثيرا وحدث الصدام المتوقع مع المالك الأجنبي الجديد للشركة، بدأ بعد فترة قصيرة من استتباب الأمر له في التملص من الالتزامات التي يفرضها عليه اتفاق تملكه للشركة، ورغم أنها تتضمن حقوقا للعمال والموظفين تعهد هو رسميا من خلال العقد المبرم باحترامها، إلا أنه انتهج سياسة التسويف والإرجاء المتكرر كلما حـان أوان تنفيذ تلك الالتزامات، ترافق مع ذلك تعامله معنا بشيء من الاستعلاء وكأننا رعايا من الدرجة الثانية ولسنا مواطنين كاملي الحقوق في بلدنا وداخل شركتنا التي بنيناها بسواعدنا وحافظنا عليها وطورناها دائما، بعد عدة شهور تكرر خلالها هذا الأمر وأصبح واضحا بصورة قاطعة أنه لا ينوي مطلقا أداء هذه الحقوق قررنا البدء في التحرك الفوري بعد أن صبرنا عليه بما فيه الكفاية، كنا قد استفدنا من خبراتنا السابقة وبدأنا حركة من الاحتجاجات المنظمة المتصاعدة الوتيرة للضغط عليه من أجل الحصول على حقوقنا، تغيرت سياسته على الفور من التسويف والاستعلاء إلى التهديد والحرمان، أعلن صراحة أنه غير قادر على الوفاء بهذه الحقوق ومن لا يعجبه الأمر فعليه اللجوء إلى المحاكم، هدد باتخاذ إجراءات انتقامية ضد أي احتجاج يؤدي إلى توقف العمل داخل الشركة، تراوحت هذه التهديدات بين الخصم والحرمان من مزيد من الحقوق ووصلت حتى الفصل واستقدام عمال أجانب للعمل في الشركة بدلا منا، بدأ بالفعل في خصم بعض الحقوق القليلة التي كنا لا نزال نتقاضاها، أصبح واضحا أن الحكومة قد تخلصت منا بأبخس ثمن وألقت بنا داخل فم الوحش، اجتمعت مجموعة العمل التي شكلناها وحاولت إعادة روح المقاومة لمن تبقى من العمال والموظفين، نجحنا في ذلك وساعدت الإجراءات العنيفة التي اتخذها ضدنا في عودة الوعي إليهم، عادت أخبار شركتنا ومشاكلها لتتصدر مرة أخرى وسائل الإعلام.

وفاء عبد الهادي

ازددت قربا من سمر منذ سفر زوجها إلى الخارج، لكنني لم أفلح رغم ذلك في التخفيف من معاناتها، عادت علاقتي بأمي كأحسن ما يكون، لم أشعر يوما بعمق انتمائي لهذه العائلة كما أشعر به هذه الأيام، أما أبي فهو يحكي لي بصورة شبه يومية عن نشاطه هو ورفاقه ضد السياسات التي يرون أنها خاطئة وفاسدة، تلك السياسات التي يعتقدون أنها تضرهم وتضر كل مواطن بسيط يعيش في هذا البلد، تذكرت الأيام السوداء التي ابتعدت فيها عن عائلتي وعشت في عالم افتراضي لا أنتمي إليه ولا ينتمي إليه غالبية الناس من حولـي، كان وهما حمدت الله كثيرا أنني أفقت منه، ولعل دخول وليد إلى حياتي كان هو السبب، لكنني الآن عندما أستعيد ذكريات ما كان يدور مع سامية ومجموعتها، ما يفكرون فيه ويتحدثون عنه ويمارسونه، أدرك كم كنت سخيفة، وكم كان حتميا أن أمل هذا النمط من الحياة سواء ظهر وليد في حياتي أو لم يظهر، وأن أدرك زيفه وخواءه، وعندما أفكر فيما اضطر إليه محمد وأنظر إلى حال سمر وأشعر بقلق أمي وأتابع ما يخوضه أبي وأسمع عما يعانيه جيراننا من أجل الاستمرار في العيش، أشعر بالحياة الحقيقية التي يعيشها غالبية الناس وليس قلة فقط منهم.

"الأسطى" عبد الهادي

لم ينسنا احتدام الأزمة بيننا وبين مالك الشركة عن تفعيل دور مجموعة العمل التي شكلناها في التصدي لقضية الخصخصة بصورة عامة، لم يعد الأمر مقصورا على شركتنا فقط، كنا قد بدأنا منذ فترة في تنظيم لقاءات مستمرة مع العديد من زملائنا في الشركات التي تتعرض لنفس المصير، نقلنا إليهم خبراتنا السابقة، عقدنا العديد من الندوات بمساعدة بعض الجمعيات المهتمة أوضحنا فيها العديد من المساوئ البينة لسياسة البيع المتسرعة وغير المدروسة للشركات، عرضنا العديد من مشاكل العمال والموظفين التي نعاني منها نحن وغيرنا، شكلت الإجراءات التعسفية التي اتخذها مالك الشركة ضدنا فرصة ذهبية لتبصير زملائنا في الشركات المختلفة بالمصير المظلم الذي ينتظرهم، مارسنا دورا علنيا بدا أنه يشكل تحديا واضحا لسياسة الحكومة، تعرض بعضنا لمضايقات كثيرة وصلت إلى حد الاعتقال مرة أخرى وإن كان ذلك لفترات محدودة، كان الأمر مرهقا بل شديد الإرهاق، رغم انشغال "أم محمد" بأمل إلا أنها كانت لا تفتأ تطالبني بمراعاة سني وصحتي، كنت بالفعل أعاني نتيجة للجهد الشديد الذي نبذله في عدة جبهات، جبهة الشركة التي تؤثر مباشرة على مستوى معيشتنا نتيجة لما نواجهه من خصومات وتملص عن سداد مستحقاتنا، وجبهة التفاعل مع الشركات الأخرى في شتى أرجاء الجمهورية والاتصال بالنقابات الفرعية والعامة، ثم جبهة وسائل الإعلام والمنظمات والأحزاب التي تقدم لنا بعض العون، وأخيرا الضغط الأمني الذي يتزايد علينا يوما بعد يوم، كنا نعاني أيضا من ندرة الموارد التي تمكننا من تمويل كل هذه الأنشطة، أصابني كل ذلك بعدة أزمات صحية مفاجئة، كنت أعبرها بسلام والحمد لله إلا أنها شكلت مصدر قلق شديد للعائلة، إضافة إلى كل ذلك كنت والأستاذ محمود نقوم بزيارة "الأسطى" حسين بصورة منتظمة، ازداد التدهور الحاد في حالته الصحية والنفسية، وضاعف من آلامه التصاعد المتتالي للأحداث في الشركة وعجزه عن المشاركة في التصدي لها.

محمد عبد الهادي

تدفع الغربة الإنسان للبحث عن كل ما يربطه بأهله وبلده، بدأت تدريجيا في التعرف على بعض المصريين الذين يعملون هنا بالسعودية، بالطبع كانت البداية بالعاملين معي في المعمل، كان أغلبهم على قدر عال من الثقافة والتعليم ولم أجد صعوبة تذكر في الاندماج معهم سريعا، توثقت علاقتي مع اثنين منهم تقاربت ميولنا واهتماماتنا، وفي حين كان البعض منا يهتمون بمباريات الكرة ومسابقاتها المختلفة والمحطات الفضائية التي تتزايد يوما بعد يوم، فيما اتجه البعض الآخر اتجاها دينيا ملحوظا، كنت وصديقاي في أغلب الأوقات التي نمضيها معا بعد العمل نتناقش في أحوال الوطن، ذلك الغائب الحاضر .. القريب البعيد، الذي يعيش داخلنا رغم كل ما نعانيه فيه، يتحدث أحدنا عن الفساد المستشري وارتباطه بقدر الحريات المتاح للناس، ويتحدث الثاني عن البطالة وغياب سياسة واضحة نحو حلها والغلاء الذي يشكل حملا ثقيلا على الغالبية العظمى من المواطنين، وغيرها من المشكلات التي غيرت من أخلاق الناس وطباعهم ودفعتهم للتشاحن والتصارع على أتفه الأشياء، تلك الأمور التي كنا نعيشها هناك ولا يزال يعيشها أهلنا وأحبابنا ودفعتنا للقدوم إلى هنا، إلى جانبهما بدأت في التعرف على فئات أخرى من المصريين الذين يعملون هنا في المملكة، مزارعون وعمال وحرفيون بسطاء يعيشون حياة أخرى أكثر مشقة ومعاناة عن تلك التي أعيشها أنا وباقي زملائي في المعمل، التقيت بعضهم بالصدفة ثم اهتممت بالتعرف على غيرهم بعدما جذبتني حكاياتهم، جاء بعضهم من أقصى الصعيد والبعض الآخر من أطراف الدلتا أو من القاهرة وضواحيها، مواطنون بسطاء تركوا وراءهم أسرا كبيرة العدد تعتمد عليهم، جاءوا بحثا عن لقمة العيش لهم ولأهلهم وكلهم أمل في أن يعودوا من غربتهم بما يؤمن لكل منهم بناء منزل أو شراء قطعة أرض أو إدخال أولاده إلى الجامعة، كانوا يمثلون بالنسبة لي عالما آخر هو في الواقع عالم غالبية الناس في بلادي، يتجمعون للعيش في مجموعات بأقل المقومات توفيرا لنفقات السكن والغذاء، منهم من جاء وتفاجئ بعدم وجود عمل حقيقي كما هو محدد في تعاقده فاضطر للقبول بأدنى الأعمال وأحقرها كي يؤمن لنفسه بالكاد السكن والطعام، يعيش الواحد منهم على أمل أن يجد فرصة عمل أفضل ويظل يمني نفسه بها، قد يجدها وقد لا يجدها، وقد يتم ترحيله من المملكة لأي سبب فيعود إلى بلده في حال أسوأ مما كان فيه، حزنت على الوطن الذي يلفظ أبنائه إلى الخارج فيعيشون في بؤس ومذلة ولو أنصفهم لتمتعوا فيه برغد العيش.

وفاء عبد الهادي

لم يشغلني سفر أخي المفاجئ، والأوضاع القلقة لأبي، وانشغالنا جميعا بمولد ابن أخي الأول بعد سفره بشهور قليلة عن تطوير علاقتي بوليد، ظللنا نتقابل خفية وازدادت العلاقة بيننا قوة، عندما ذكر لي للمرة الأولى رغبته في التقدم لخطبتي .. كدت أطير فرحا، أبدى لي استعداده لمقابلة والدي فورا وقبل تخرجه، لم أصدق ما قاله، رغم أنه من المفترض أن تكون هذه هي رغبتي وأن أسعى أنا إليها، إلا أنني كنت راضية فقط بوجودي معه، بل لقد استكثرت على نفسي أن أتزوج مثل هذا الشاب الرائع، طلبت منه أن ينتظر حتى ينهي سنته الأخيرة بالكلية، قلت له:

ـ أنا أعرف أبي، سيطلب منك الانتظار حتى تنهي دراستك، وربما يطلب أن تنتظر حتى أنهي أنا أيضا دراستي.

وافق على مضض، في هذا الوقت كان زملائي السابقون قد يئسوا من أمـري، حاولوا كثيرا استعادتي لكنني تجاهلتهم، حاول بعضهم التجسس علي، شعرت أنهم قد اكتشفوا سري، قررت في النهاية ألا أعبأ بهم، فليعرفوا أو لا يعرفوا .. لم يعد يهمني أمرهم.


سمر

يكبر أمل يوما بعد يوم في غياب أبيه، رغم انشغالي به وفرحتي بمتابعة نموه إلا أن غياب أبيه عنا لا يزال يعذبني ليل نهار، أهرب من أحزاني وشوقي إلى زوجي وحبيبي فأرضع كل حناني وحبي إلى ابنه مع لبن ثديي، أسرد له حكاياتي مع أبيه منذ كنا أطفالا حتى جمعنا فراش واحد، أعلم يقينا أنه غير قادر على إدراك ما أقول لكنني لا أمل عن تكرار الحكاية عليه وأقول لنفسي ستمضي الأيام والشهور وسيفهم يوما ما أقول، تدخل علي زوجة عمي أو وفاء وأنا على هذه الحالة فيعاتباني ويطالباني أن أهون على نفسي، لكن كيف السبيل إلى ذلك وقلقي على محمد لا يهدأ أبدا، أعاتبه على كثرة اتصالاته التليفونية لكنني في الحقيقة لا أريدها أن تتوقف أبدا، ومع كل حركة جديدة يقوم بها أمل أو صوت يصدره أو تطور ما في حالته العقلية والبدنية أندم أن أبيه لا يلمس ذلك بنفسه فيبتهج معنا بذكاء مولوده الصغير، وخفة ظله .. وحلاوة حركاته .. وتعبيرات وجهه، انشغلت به عن متابعة أحوال عمي ومشاكله في الشركة، أو حالة زوجة عمي الصحية رغم تحسنها الواضح منذ ولادته، حتى وفاء التي اقتربت مني كثيرا في الفترة الأخيرة وخرجت تماما من الحالة الغريبة التي كانت تمر بها عجزت عن مبادلتها نفس القدر من الاهتمام، كنت أشعر أحيانا أنها تريد أن تخبرني بأمر ما لكنها لا تفعل، لم أكن في حالة من الفضول كي أسألها، أنام ليلا على أمل أن أجد محمدا إلى جواري وجوار ابنه عند استيقاظي فأصحو على بكاء أمل ولا أجده.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى