أحمد عبدالله إسماعيل - البحث..

يبحثُ الرجل ُبكل ِما أُوتيَ من أملٍ، وقد قررَ قضاءَ َما تبقى من عمره مستمراً في التنقيب.
يُمسك بأدواتِ الحفرِ مؤمناً أنّه سيصلُ إلى هدفه حتمًا، لكنه يشعرُ بأنّ الوقتَ قد حان ليجلسَ قليلاً ليلتقطَ الأنفاس.
شعَرَ بالحزن بعد قضاءِ كل ِهذا الوقتِ في الحفر دون الوصولِ إلى شيء، سمِعَ أصواتَ انهياراتٍ قريبةٍ لكنها لم تمنعْه من إكمال حلمه.
وافق الرجلُ على الجلوس ِللاستراحة على مضض، رغم أن شغفَه لاستكمال التنقيبِ كان يتضاعف.
وفيما كان يحفرُ ويبحث ُوينقبُ، خارت قواه، فرفع بصرَه إلى السماء، وتضرعَ أن ينتهي البحثُ في أسرعِ وقتٍ ممكن.
كانت تلك طريقةً مؤسفة حقًا لينتهيَ بها حُلْمُه …
بمجرّد أن حضرتْ عدساتُ القنواتِ الفضائيةِ، وامتلأ المكانُ بالحركة، سُمع دَويُّ انفجارٍ تلاه آخر، جاء المذيعُ ليلقيَ نظرةً على موقعِ التنقيب. وقبل أن يبدأَ البثُ، سأل الرجلَ عن سببِ وجودِه بين هذه الأطلالِ.
أجابَ موجهاً حديثَه إلى السماء :
"هذا بيتي، لم يبقَ منه إلا الذكرى، ذهب كلُّ شيء، ثماني سنواتٍ من العمل في أوربا، والآن أبحثُ عن أولادي الأربعةِ تحت أحجارِ بيتي، أولاديَ الأربعةُ سبقوني إلى الجنةِ يا الله، يا حبيبي يا الله، أولاديَ الأربعة؟!"
غمرت الدهشةُ المذيعَ يناجي روحَه "يا لها من صدمةٍ لهذا الرجلِ، لكنْ ليته كان يتوقعُها طوالَ سنواتِ غربته، لكان حينَها قد بذل جهدًا في الاقتناعِ بالبقاءِ غريباً عن أرضهِ في الأمان، لكن هيهاتْ.
نظر إلى المذيع وفي تحدٍ انطلق لسانُه:
"سوف نبني غيرَه وننجبُ عشرةَ أولاد، بل عشرات، ولسوف أعودُ يا أرضي."
في تلك الأثناءِ تلقّى المذيعُ اتّصالاً هاتفياً من زملائِه، فقدَ النطقَ للحظات، بعد ما ترك الرجلُ أدواتِ البحثِ والتنقيب، هرع إليه، احتضنَهُ بين يديه يواسيه لفقدانِ زوجِه وولدِه وابنتِه وحفيدتِه إثرَ قصفِ منزلِه ولا يزالُ البحثُ جاريًا عن أحباب تحت التراب!
رجفت نفس المذيع، الذي فُجع بفقد أهله، وتزلزلت في صدره، ربّت الرجل على كتفه، فنظر إليه مرتعشا وقال :
-"أصبحت يتيم الوطن، الثكل ثكلي، مات وطني الذي عشت فيه، واستندت إليه، وتنفست روحي هواه".
غمره الرجل في حضنه يشاطره الأسى ويخفف عنه، وفي تلك اللحظة، سمع صوتا ينبعث من تحت الأرض، تقافز قلبه في صدره، وانطلق المذيع يسابقه صوب الصوت متناسياً كل ما داهمه من حسرة وألم.
هزّ الرجلان الحجر الضخم وحركاه حركة شديدة، يتحديان الزمن للوصول إلى مصدر الصوت، وبعد بلوغ المشقة من شدة التعب وصلا إلى الطفلة الصغيرة ذات العشر سنوات أسفل مكتب خشبيِّ، أزال الأب عن وجهها التراب أخذها وجذبها بسرعة في حضنه، وظل يقبلها ويلهج قلبه بكلمات الثناء والحمد، فسمعها تقول:
-"ماء، أشعر بالعطش الشديد".
اندفع الأب في كل اتجاه، يُسرع في مشيته، ثم جرى هنا وهناك حتى أعياه التعب الشديد ولم يجد ماءً!
كانت الابنة قاب قوسين أو أدنى من الهلاك عطشى إلى الماء لو لم تجُد السماء بماء منهمر؛ إذ أغاث السحاب السماء، ونزل المطر الغزير الذي جلب الخير والبركة فكان غوثا ونجدة.
التقط المذيع الكاميرا، ووجهها صوب الطفلة الصغيرة، وعرض للعالم تعريفاً جديداً لمعنى كلمة الصمود حين قالت:
-"ارتوينا من ماء المطر".
كلمات الطفلة الكبيرة التي تسكن هذا الجسد الصغير أبكت المذيع الذي تذكر ابنته التي انهدم البيت فوق رأسها قبل دقائق، وهي في مثل عمرها.
انطلق صوب بيته؛ ليبحث هو الآخر عن أهله الذين يحتضنهم التراب. ابتسم في وجه الرجل ابتسامة تسليم، وقلبه الذي يغلي ثورة وغيظا يردد كلمات الحمد، وهمّ بالانصراف على عجل إلا أن الرجل أبى أن يتركه يمشي وحيدا؛ رافقه إلى منزله لعله يمد له يد العون في البحث؛ فينتزع -هو الآخر- من بقيَ من أحبابه من بين أظفار الموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى