فاتح المدرس وجان بول سارتر/ روما1959

كان ذلك مساء أحد أيام الصيف في روما، التقيت به بجانب الأكاديمية حيث مرسمي في فبادل بابونيو- أي شارع الفرد، في قلب روما حيث الأكاديمية وباعة اللوحات القديمة، لمس يدي، رجل قصير بوجه لطيف يرتدي نظارتين، بعينين حمراوين
- من فضلك فرماشيه "صيدلية"؟
تمعنت بوجهه مبتسما.
- البروفسور سارتر؟
- نعم أنا هو
- الصيدلة بجانبك . . دخلنا الصيدلية واشترى أسبرين وقال:
- أنت روماني من روما؟
- لا أنا من سوريا
- أرابو؟
- نعم أدرس في تلك الأكاديمية "وأشرت إليها".
- أنا تعب جدًا هذا المساء والألم في رأسي.
مشينا قليلاً وتمسك بذراعي الأيمن.
- بروفسور هل تتعشى معي في مرسمي؟
- بكل سرور . . أنت رسام، ومن الشرق.
عشت مع سارتر أسبوعًا وكان هارباً من باريس بسبب خلاف أيديولوجي مع الرئيس ديجول.
وفي المرسم رحت أدعو لأجله بعض الأصدقاء المتنورين من الطليان وكان يحب أن يشارك في طبخ السباجتي ويحب النبيذ الإيطالي الأبيض- وكان يفهم الإيطالية قراءة ولا يحسن الكلام بها.
هذا الأديب العظيم والفيلسوف الرائع، كان خفيف الظل، هادئا في نقاشه، وكان يتحاشى كل ما هو خارج دائرة الطبيعة الإنسانية من حيث طرق المواضيع بشكل مفتعل، كان بسيطا مثل الهواء والماء، له رأس مستدير جميل ويتحاشى النظر في عيون الآخرين، إذا تكلم فهو كإبريق الزيت ينساب اللفظ من وجوده كخيط الزيت.
- أستاذ سارتر لماذا انتخبت هذه الأعمال دون غيرها؟
- أريد شيئا منك. أعمالك تتراوح بين التجريد الرصين ووجود الطبيعة كما نراها في الحلم، حتى إنسانك يتمتع بالقوة والغربة، والصمت.
- ما هو رأيك في الفن العربي الكلاسيكي، هل تستطيع أن تصنفه ضمن المفاهيم العامة للفن التشكيلي؟ ألا تعتبره جزءا مكملا للعمارة.؟
- حتى الفن التربيني بما فيه Art Aplique "الفن التطبيقي" إذا كان صاخبًا هو فن تشكيلي تام.
ومرة كنت أرافقه من شارع ألفرد إلى ساحة العمود حيث فندقه: عندما سألته:
- مسيو سارتر كم ضحية جزائرية تم قتلها في هذه الحرب الفرنسية الجزائرية؟ أعني الثورة الجزائرية.
- ثمانمائة ألف حسب إحصاء الإذاعات "عام 1959".
وصلنا إلى الفندق وقال وهو يتابع الحديث:
- ستقرأ رأيي في الثورة الجزائرية غدًا في جريدة Paese Sera " الوطن المسائي".
وأردف وهو ينهض من مكانه:
- لن أغيب طويلاً
وسار إلى نهاية الصالون وقلب عددًا من الكراسي في طريقه ورفع سماعة الهاتف وكنت أسمع صوته من بعيد، غاب ساعة كامله وعاد نشطًا وقال:
- أمليت مقالاً على مجلة "الأزمنة الحديثة" وغدًا سيصل المقال إلى روما وتقرأه.
اقتنى أربع لوحات من أعمالي. وسمعت بعد سنوات أنها مسجلة ضمن إرثه بعد وفاته.
ترجم لي- رحمه الله- أربع مقطوعات من شعري الحر من الإيطالية إلى الفرنسية. ودعاني لأزوره في باريس وذهبت في بعثة جامعية إلى "البوزار" وكان بيته بجانب الأكاديمية ولكني لم أحاول لقاءه، لأن لاتجاهه الأيديولوجي اتجه نحو دعم الصهيونية بسبب بنت صبية يهودية عاشت معه في سنواته الأخيرة.
وكلما فكرت بهذه الحادث يتنابني شعور غامض: هل حقَا في قلب كل ملاك قاتل محترف؟

فاتح المدرس.


1714724903285.png
أعلى