د. علي زين العابدين الحسيني - وفاة الأستاذ المقرئ الصيدلاني علي محمد توفيق النحاس!

تلقيت خبر وفاته قبل لحظات. وبالأمس قمت بنشر بعض ذكرياتي معه، وكنت أتمنى أن تصله كلماتي اليوم لأدخل عليه الفرحة التي كان دائماً يمنحنا إياها. رحم الله الشيخ الجليل وعوض الأمة خيراً في فقده.

فإلى أستاذي:
رحمك اللهُ، وأسألُ اللهَ لَك مزيدَ إحسانٍ وفيوضَ رضوانٍ.

وإلى الأصدقاء:
إذا مَررتُم علَى منشوري فكُونوا كالغيثِ يَروي قبرَ أستاذي بدُعَائكم!
وهذا نص ما نشرته قبل وفاته بيوم:

"في قلب القاهرة حيث تتعانق أرواح التاريخ مع نبض الحاضر، وفي أحد شوارع حي "المطرية" العريق تقبع صيدلية غير عادية. فما يميزها ليس فقط الأدوية والمستحضرات الطبية التي تحتويها، بل شخصية فريدة من نوعها تديرها، العلامة المقرئ الصيدلاني، الأستاذ السيد علي محمد توفيق النحاس.

هو نبتة علمية زرعت في تربة الأزهر الشريف، نمت وازدهرت في ظلال والده، أحد أعمدة العلم بالمعهد الأزهري في الزقازيق. منه تعلم مبادئ الفنون وعلوم القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولأبيه عليه أبلغ الأثر في تكوين صفاته وتوجيه حياته؛ ليسلك درب القراءات القرآنية بنبوغ، ثم ينتقل بعدها ليفتح صفحة جديدة من حياته معلمًا ومرشدًا، وقارئاً ومقرئاً، وناظماً ومؤلفاً.

تلك الصيدلية التي يمتلكها في حي شعبي بالقاهرة تحولت إلى موئل لطلبة العلم من جميع أنحاء مصر -كما كنت أراه- حيث الروحانية تتجلى في كلّ زاوية. لقد باتت بحقٍ محراباً لتلاوة القرآن وأسرار التجويد والقراءات، ورغم أعباء الحياة وضغوط العمل كان الأستاذ علي يخصص أثناء عمله وقتاً؛ ليعلم ويُقرأ طلبته في ذلك الفضاء الذي يفوح بعطر الصبر والإصرار.

ولطالما تعجبتُ من طاقته الشديدة وصبره الجم، كيف يحول لحظات يومه إلى دروس في الجد والاجتهاد. كان يرى في الإقراء والتدريس رسالة سماوية يأمل أن يلقى الله وهو يؤديها. حتى في منزله، لأنه يستمر في الإقراء بالصيدلية حتى الساعة الواحدة صباحاً ثم يغلقها ويعود إلى منزله، ولا يكاد يطل عليه الفجر حتى يجلس لإقراء أحد طلابه "صحيح البخاري" دون كلل أو ملل، يسقي بذور العلم، وينير دروب الجهل بنور القرآن والسنة.

في لقاءاتي المتكررة معه تكشفت لي أسرار حياته التي عاهد فيها نفسه على ألا يتوقف عن العطاء والتدريس، ولطالما ذكر لي أنه يتمنى أن يستقبل لقاء ربه وهو في هذه الحال من الإخلاص والعمل. لذا في هذه اللحظات أجدد تحيتي لهذا العالم المقرئ الجليل الذي جعل من صيدليته ومنزله منارات إشعاع علمي وروحي.

يعيش الأستاذ علي محمد توفيق النحاس في ظلال الوقار والسكينة، إنه شخصية تجسد معاني الهدوء والرصانة التي نادراً ما تجدها متجسدة في شخص بهذا العمق. هو كالنسيم العليل في يوم صيف حار، يجلب البرد والراحة لكل من حوله. وبابتسامته اللطيفة التي لا تفارق محياه يفيض كرماً وضيافة، متخذًا من القرآن خلقًا ومنهجًا في الحياة، حيث الذكر والدعاء والاستغفار والقراءات القرآنية تشكل لحن حياته الدائم.

ليس فقط أدوية الأجسام التي يقدمها لزواره من عامة الناس في صيدليته الواقعة في قلب المطرية، بل يوزع أيضًا دواء الروح والقلب لطلاب العلم والمريدين الذين يفدون إليه بحثًا عن العلم والإرشاد؛ متحليًا بآداب السلف في السلوك والعمل، موليًا اهتمامًا خاصًا بأمراض القلوب وشفائها من الأدواء الروحية.

مَن يلتق به يشعر بهيبة تملأ المكان، تنبع من سمته وجلالته، ليس من قسوة أو جبروت، بل من نور يشع من وجهه وتصرفاته التي تحمل في طياتها التذكير بالله عز وجل. هذه الهيبة تدعو مَن يراه إلى الزهد في ملهيات الدنيا والإقبال بقلب صافٍ نحو الآخرة؛ كأن لقائه يعيد ضبط بوصلة الروح لتشير دومًا نحو السماء.

في تعاملاته اليومية، سواء كان ذلك في صيدليته بين أدراج الأدوية ورفوفها، أو في جلسات العلم حيث يتفيأ الطلاب ظلال علمه يعكس الأستاذ علي بوضوح رؤية الحياة التي اختارها، حياة ملؤها العطاء والسعي لإفادة الآخرين، جسديًا وروحيًا.

هو بحق خير مثال على أن العلم والدين والإيمان لا يفترقون، بل هم سبيل لتحقيق السلام الداخلي والرضا، نبراس يهدي السائرين في طريق الحياة إلى مرفأ الأمان والطمأنينة.
أدعو الله أن يحفظه ويطيل في عمره، وأن يجزيه عنا خير الجزاء لما قدمه من علم وعمل صالح".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى